السبت، 30 أغسطس 2008

مالك بن المرحل

مالك بن المرحل ( 604 -- 699 هــ / 1207 ــ 1299 )

تاريخه :

ولد أبو الحكم مالك بن المرحل السبتي في بلدة سبتة و نشأ ساقط الذكر ، خفي المنزلة ، إلا أن أدبه و شعره جعلا منه شاعر المغرب الأول ، تعاطي صناعة التوثيق في بلدته و تقرب كثيرا من يعقوب المنصور المريني و قد خصه دون غيره بالمديح ، و بالرغم من شيخوخته و تقدمه في السن بقي نافذ الذهن ، شديد الإدراك ، سريع البديهة ، توفي بفاس سنة 699 هـ / 1299 م .
أدبه لأبي الحكم ديوان شعر لم يبق منه إلا بعض القصائد في أغراض متنوعة ، و هو يحاول في شعره أن يقلد أبا تمتم و غيره من شعراء المشرق ، و لكنه لا يستطيع أن ينطلق في ميادين الحماسة انطلاقهم ، و لا تشعر أن الثأتر بلغ منه مبلغا شديدا ، فشعره لين و سهل ، مطبوع بطابع التدين و الإنتصار للدين ، و هو على كل حال لا يخلو من رفق و جمال .
(( قيل عن ابن المرحل إنه (( أطبع شعراء المغرب أسلوبا ، و أرشقهم لطفا ، و أبلغهم معنى )) و هذا يعني أنه من أحق الشعراء بالخلود ، و أنه من العقريات التي يستطيع المغربي العربي أن ينافس بها أهل المشرق ، و إننا سنتتبه في بعض أغراض شعره لنقف على بعض مزايا هذا الشاعر العظيم الذي جمع في صدره عالما من العلم ، و في شعره عالما من الروعة .
شاعر المدح :
ذكرنا سابقا سابقا أن ابن المرحل خص يعقوب المنصور المريني بالمديح دون سواه ، و يعقوب بن عبد الحق هذا هو الذي استطاع أن يقظي على الموحدين و يرفع لواء بني مرين ، و كان فاضلا نقيا ، يحب العلم و العلماء ، و يستبشير رجال الفكر في شتى أموره ، و كان إلى ذلك رجل دولة من الدرجة الأولى ، و رجل حرب شديد البأس ، مرهوب الجانب ، و قد حاول أن يسترجع ملك أفريقية من سيطرة بني عبد الواد و بني حفص فلم يفلح ، و لئن كانت له عليهم انتصارات في مواقع متعددة فإنه لم يتمكن من بلوغ الأهداف ، و تحقيق الوحدة المغربية التي حققها الموحدون .
و عندما فتح مدينة مراكش مدحه شاعرنا بقصيدة ميمية رائعة تجلب فيها شاعريته بشتى مزاياها ، و الطريقة التي انتهجها في مدحه لهذا العاهل الكبير الذي ملأ نفسه إعجابا ، و قلبه فخارا ، فكان له بمثابة سيف الدولة لأبي الطيب المتنبي أو بالحري بمتابة المعتصم لأبي تمام صاحب البائية الشهيرة التي نظمها عند فتح عمورية ، هو الفتح يستحث قريحة الشاعرين فينطلقان انطلاق غبطة و عزة و يريان في الممدوح سيفا من سيوف الله في رقاب الظالمين ، و رحمة من رحمات الله في نفوس العابدين .
تمثلت لشاعرنا وقفة أبي تمام يومذاك ، و تصورت في نفسه معانيه ، فراح يعالج الموضوع مستوحيا لا مقلدا ، و مقتبسا لا مرددا ، و هكذا كان البحر البسيط مركب الشاعرين ، و كان الفتح عندهما تفتحا في الوجود و في أبواب الجنة ، و كان الأمير مختارا من الله لصرة الدين و عقاب الظالمين .
و لكن ابن المرحل لم يستطع مجاراة أبي تمام في ملحمته الحربية ، و في قوقعته الشعرية ، و لم يسلك مسلكه في الزخرفة المدوية التي غمرت أبياته و قوافيه ، و لا في التعقيد الفكري و اللفظي الذي انطوت عليه قصيدته ، بل نزع منزع اللين و السهولة ، و استعاض عن وصف الحرب بالإطناب في ذكر صفات الأمير الكبير ، و إذا هو خير الحاكمين ، و ملاك الله الأمين بل هو درع الدين و حمى المسلمين ، فسبحان من خصه بالفضل كله ، و سبحان من وهبه نور العقل و نور اليقين .
و هكذا فالقسم الأول من القصيدة نشيد الفتح ، و هو أقرب إلى وصف الطبيعة و النسيب منه إلى الحماسة و شعر الفتوح ، و القسم الثاني لنعمة الله التي رافقت الأب المنصور إلى الولد المنصور ، و القسم الثالث للفاتح رجل السيف و القلم ، و في هذه الأقسام سكب الشاعر روحه المتدينة ، و إيمانه العميق ، على كل بيت و كل عبارة ، فكانت القصيدة مطبوعة بطابع التدين و الإنتصار للدين .
أضف إلى ذلك أن ابن المرحل مزج المدح بوصف الطبيعة على طريقة الأندلسيين ، مما أضفي على كثير من الأبيات شيئا من الرقة و اللين هما لغير هذه المواقف .
شاعر الغزل :
لإبن المرحل غزل طريف ، و إننا سنتوقف عند قصيدتين نستجلي من خلالهما ميزات هذا الشاعر في فن النسيب و التشبيب ،
القصيدة الأولى : من وحي ابن الفارض ، و قد تأثر به شاعرنا ، و راح ينهج نهجه في التقلب على نار الهوى ، و فقدان الصبر ، و التململ على فراش السهر و الدموع ، و راح ــ و هو الخبير بالقضاء و المرافعات ، يتحكم إلى قاضي الحب ، و يقيم الشهود لإثبات الحقيقة التي يعانيها :
شكيت لقاضي الحب قلت أحبتـــــــــــي جفوني و قالوا أنت في الحب مــــــــــــــدع
و عندي شهود بالصبابة و الأســــــــى يزكون دعواي لإذا جئت أدعــــــــــــــــــي
سهادي و شوقي ، و اكتئابي و لوعتـي و وججدي و سقمي و اصفراري و أدمعــــي
ليس في هذا الحب معاناة حقيقية ، و ليس فيه تعبير عن تجربة ، و إنما فيه فن و طرافة ، و روعة أداء ، و هو ، و إن كان قليل الإثارة ، ضعيف التأثير في عالم النفس و الحسن ، فهو يعجب بما فيه من زخرفة بيانية و بديعية ، و بما يمتاز به من رقة و سلاسة و سهولة ، و يعجب خصوصا بالطرافة التي يتحلى بها .
لابن المرحل قصيدة أخرى حافلة بالطرافة على وزن مجروء الدوبيت .
افتحها بفلسفة الحب و الحبيب ، و بين أن القلب عبد الجمال ، و أن للحب الحقيقي دلائل تدل عليه ، ثم انتقل إلى نفسه و إذا هو هدف لسهام الجمال تنطلق من حبيبه إلى مقاتله ، و إذا هذا الحبيب تمثال حي من تماثيل الفن و النهاء ، و لكنه مع ذلك تمثال يثير .
الإعجاب :
ياحسن طلوعه علينــــــــــــــــا و السكر بمعطفه مائـــــــــــــــل
قد نم به شذا الغوالـــــــــــــــــي إذ هب ، و نمت الغلائــــــــــــل
و السحر رسول مقلتيــــــــــــــه ما أقرب عهده ببابـــــــــــــــــل
شاعر الفصص و الفكاهة :
و هذه ناحية أخرى طريفة تتجلى لنا في شعر ابن المرحل ، من أمثال هذه القصص الفكاهي و المأسوي في آن واحد قصته مع امرأة شوهاء ارغم على زواجها بالحيلة و الدهاء ، و لما اختلى بها وجدها قرعاء حولاء ، فطساء ، صماء ، بكماء ، عرجاء ، فما كان له إلا أن يهرب تحت جنح الظلام ، و ينحو بنفسه من غوائل الأيام .
يفتتح الشاعر قصيدته بالتكبير و بإعلان تدينه ثم يعلن أنه كان ضحية لمكر النساء :
إن النساء خدعنني و مكرن بي و ملأن من ذكر النساء مسامعي
حتى وقعت ، و ما وقعت لجانب لكن على رأسي لأمر واقـــــــع
ثم يري لنا كيف احتلن عليه و وصفن له العروس بأوصاف الفتنة و السحر ، و كيف أقدم بعدم تردد ، فكتب الكتاب و شرطت الشروط ... و كان قرارة نفسه يخشى ما آلت إليه حاله :
ثم انفصلت و قد علمت بأنني اوثقت في عنقي لها بجوامع
ولم تلبث النساء أن عدن إليه و أمرنه أن يأخذ في البناء ، و أن يصنع للعروس عرسا و أن لا يحوج إلى قاضي و محاكمة ... عند ذلك شعر الشاعر بالمسؤولية الباهظة ، و راى في الأمر ما يريب ، فندم ، و هيهات أن ينفع الندم ، و فكر في الطلاق و لكنه طمه في الحسن الذي أطنبت النساء في وصفه ، فأقام العرس ، و طمع في أن تجلى العروس فيصبر وجهها ، و لكن النساء كن بالمرصاد :
فدكرن لي أن ليس عادة أهلها جلو العرس ، و تلك خدعة خادع
ثم نقله ليلا إلى دارها ، و إذا هو بيت صغير مظلم ، فسمع (( حسا منكرا )) اشبه بنقيق الضفادع ، فحاول أن يهرب ، لكن النساء حلن دون ذلك ، ، فخضع أخيرا لما لا بد منه ، و اختلى بعروسه ، و أرغمها على نزع الخمار عن رأسها ، و إذا به أمام مشهد رهيب :
فوجدتها قرعاء تحسب أنهــــــا مقروعة في رأسها بمقـــــــارع
حولاء تنظر قرنها في ساقهـــــا غتخالها مبهوتة في الشـــــــارع
فطساتحجو أن روثة أنفهــــــــا قطعت ، فلا شلت يمين القاطـــع
صماء ...
فما كان منه عند هذا المشهد إلا أن يندفع في الزقاق هاربا (( كأنه لص أحس بطالب أو تابع ))
حتى إذا لاح الصباح و فتحوا باب المدينة كنت أول كاسع
إنها و الحق يقال قصة طريفة فيها تحليل دقيق ، و فيها سرد ممتع ، و فيها سلاسة و عذرية و رواء .
شاعر الحكمة و الزهد :
مالك ابن المرحل رجل امتاز بحصافة العقل ، و سعة الثقافة و حسن التدين ، و له في الحياة و الناس و الزمان آراء مبثوثة هنا و هناك في شعره ، و هي أبدا تخص على التحلي بالفضيلة و التقوى ، و على السير على سبيل الإستقامة .
و الفتى الذي يرجى توبته جدير بأن يبكي على نفسه :
جدير بان يبكي على نفسه أســــــــــى فتى كلما ترجى له توبة ترجـــــــــا
جبان عن التقوى ، جرئ على الهوى قريب من المهوى ، بعيد من الملجأ
و كم في هذا الكلام من ترصن و من صدق عقيدة ، و كم فيه من جمال فني في التعبير فالجناس في البيت الأول رائع ، و الطباق في البيت حافل بموسيقى الأسى و الأسف .
و ابن المرحل شديد التأثر بجماعة التصوف ، و إننا لنراه يسير في خطاهم و يستعير بعض تعبيراتهم و ألفاظهم ليعبر عما في نفسه من لواعج ، و عما في قلبه من صبو إلى عالم الله تعالى ، فهو يبكي على ذنوبه و ينتحب ، و يدعو صاحبه إلى البكاء و النحيب معه عله يغسل بالدموع أدران آثامه :
بحقك لا تبرح أطارحك لوعتــي رجاء بعيد ، لا مخاف قريـــب
بدار إلى هذي الدموع فربمـــــا غسلت ذنوبا جمة بذنـــــــوب
و هو إلى جانب ندمه عما أتى من سيئات ، يدعو الناس إلى التعقل ، و نبذ الدنيا الغرارة ، و عدم تأجيل التوبة إلى زمن الشيخوخة :
بعيد من التوفيق من بات ساهرا رجاء بعيد ، لا مخاف قريــب
بطئ لعمري من سرى الليل كله و أصبح حول الحي بعد لغوب
بخيل لعمري من دعاه حبيبه : هلم إلينا ــ و هو غير مجيـــب
هذا هو مالك بن المرحل الذي قيل عنه (( إنه أعظم شعراء المغرب شهرة على الإطلاق )) إنه شاعر الدين و الدنيا الذي استطاع أن يجمع في شعره جزالة العباسيين و رقة الأندلسيين ، و تلوع المتصوفين ، و أن يكون صاحب الشخصية المغربية الفذة التي صبغت عبقريته بصبغة المغرب )) .

ليست هناك تعليقات: