الخميس، 4 سبتمبر 2008

ابن زيدون



ابن ريدون ( 394 ــ463 هــ / 1003 ـــ 1071 م )

تاريخه :

هو ابو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون ، ولد بقرطبة في بيت شرف وفقه و أدب ، و نشأ مكبا على العلم و ارتشاف مناهل الثقافة ، و قد تخرج في ذلك على أبيه الفقيه الكبير ، و على صديق أبيه أبي العباس بن ذكوان عالم قرطبة الأول في عصره ، و تخرج في النحو و الأدب و اللغة على أبي بكر مسلم بن أحمد ، ثم تردد على علماء الجامعة الكبيرة في قرطبة ، و أخذ عنهم الشئ الكثير في مختلف نواحي الثقافة ، حتي اصبح بعد زمن قصير علما من أعلام الفكر و الأدب ، و في تلك الأثناء شبت الفتنة الكبرى التي انتهت بسقوط الأمويين و قيام دولة بني جهور ، فتقرب ابن زيدون من مؤسسها ابن الحزم بن جهور فلقبه (( بذي الوزارتين )) ثم اتصل بالخليفة المستكفي و علق بنته (( ولادة )) و هام في حبها إلى حد بعيد جدا ، و كان المستكفي ـــ على حد قول ابن حيان ـــ (( مجبولا عن الجهالة )) ، عاطلا من كل خلة تدل على فضيلة ... معروفا بالتخلف و الركاكة ، مشتهرا بالشرب و البطالة ، سقيم السر و العلانية ، اسير الشهوة ، عاهر الخلوة ، و كانت ابنته ولادة من أهل الأدب و الشعر و الموسيقى ، و لما توفي والدها سنة 1025 م فتحت بيتها للأدباء و الشعراء ، قال ابن بسام (( و كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر ، و فناؤها ملعبا لجياد النظم و النثر ، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ، و يتهالك أفراد الشعراء و الكتاب على حلاوة عشرتها ، إلى سهولة حجابها ، و كثرة منتابها ... على أنها ـــ سمه الله لها و تغمد زللها ــــ اطرحت التحصيل ، و أوجدت إلى القول فيها السبيل ، بقلة مبالاتها ، و مجاراتها بلذتها )) .

علق ابن زيدون ولادة و علقته ، و قضيا ردحا من الزمن في عيشة استهتار و مجون إلى أن كان يوم تبدلت فيه الأحوال و تبدلت فيه ولادة لعشيقها ، و قد يكون السبب في ذلك أن ابن زيدون وقع في هوى إحدى جواري ولادة أو أنه انتقد أحد ابياتها الشعرية ، فمالت عنه لذلك كل الميل ، و وقعت في هوى الوزير أبي عامر بن عبدوس ، و راح لبن زيدون يتوسل بغير جدوى ، و ينظم الشعر مهددا ابن عبدوس ، شاكيا إلى ولادة تباريح الهوى ، و كتب إلى ابن عبدوس رسالى عرفت (( بالرسالة الهزلية )) سخر فيها منه على لسان حبيبته ، فلم يلبث الوزير ان عمل على سجن الشاعر ، فراح ابن زيدون في سجنه يكتب الشعر مسترحما ، و راح يكتب إلى أبي الحزم رسالته المعروفة (( الرسالة الجدية )) مستعطفا ، و لكنه لم يجد اذنا تصغي و قلبا يرحم ، فصمم إذ ذاك على الهرب من السجن ، ففر ليلة عيد الأضحى و ظل متخفيا عن الأنظار إلى أن عفا عنه أبو الحزم ، و لما خرج من السجن بعث إلى ولادة بقصيدته المشهورة :

أضحى التنائي بديلا من تدانينا و ناب عن طيب لقيانا تجافينا

و لما توفي أبو الحزم سنة 1043 م اتصل الشاعر بابنه ابي الوليد و لقي لديه حظوة كبرى ، و ارتفع عنده إلى مرتبة الوزارة ، ثم اتخذه ابو الوليد سفيرا بينه و بين ملوك الطوائف ، فراح يتقلب من بلد إلى بلد و هو أبدا متشوق إلى قرطبة بنظم الشعر في حنان و لهفة ، و هو أبدا اسير حب ولادة و أسير الكأس و الليالي الساهرات ، و أخيرا اتصل ابن زيدون ببلاط بني عباد في اشبيلية ثم في قرطبة فجعله المعتضد وزيرا له ، و لما توفي المعتضد زاد ابنه المعتمد في تكريم الشاعر ، و جعله نديم شرابه و رفيق لهواه و حياته ، فقام الحساد ينفسون عليه تلك المكانة و يسعون في ابعاده ، و لما شبت ثورة إشبيلية على اليهود ، وجدوا سانحتهم المنتظرة فأشاروا على المعتمد أن يرسل ابن زيدون لإخماد نار الثورة ففعل و هكذا أقصي الشاعر و انتقل إلى اشبيلية حيث ثقل عليه المرض و توفي سنة 1071 م .

ادبه :

لأبن زيدون مجموعة رسلئل أتينا على ذكرها فيما سبق ، و له ديوان شعر طبع في مصر و فيه شتى الأغراض الشعرية المعهودة .

ابن زيدون في غزله :

الغزل عند ابن زيدون حاجة في النفس يلبي نداءها ، و ميل جامح يسير في ركابه ، و ثورة في القلب يندفع في تيارها ، فهو رجل المرأة الغوية يهواها إلى حد الجنون و المرض ، و يريدها أبدا طوع هواه ، و يوجه نحوها جميع قواه ، في ترف أندلسي ، و جماح نواسي ، و قد عانى من جراء الحب ألوانا من الألم و اللوعة ، و قاسى في سبيل المرأة أمر العذاب ، فوجدها رفيقة حياة ، و سبب مسرات ، كما وجدها موئل غدر ، و عالم تقلب و خيانة ، و لقي في كأس هواها ألف مرارة و مرارة ، فراح يسكب نفسه حسرات ، و يعصر قلبه و يرسله تأوهات و زفرات ، و إذا قصائده مزيج من شوق ، و ذكرى ، و ألم ، و أمل ، و إذا الأقوال منثورة مع كل نسيم ، مرددة كل صدى ، و إذا كل كلمة رسالة حب و غرام ، و كل لفظة لوعة و انطلاقة سهام ، و هكذا كان غزل ابن زيدون روحا متململا ، و كيانا تتقاذفه الأمواج ، و هكذا كان شعره كلام العاطفة و الوجدان ، و في عذوبة تتماوج على أعطافها موسيقى هي السحر الحلال ، موسيقى تنام على أوثارها الدهور و يغفو بين حناياها الجمال و النور ، و هكذا كانت ألفاظه سهولة تنمو في أجواء الطبيعة الزاهية ، و تمتزج بها امتزاج ألأرواح بالأرواح ، و إذا كل شئ في القصيدة حي نابض ، و إذا كل شئ رونق و جمال ، و كل شئ حلقة نورانية بين الذكرى و الآمال .

و من جميل غزله قوله :

ا ضر لو أنك لي راحــــــــــــم و علتي أنت بها عالــــــــــــــــــــــم

يهنيك ، يا سؤلي و يا بغيتـــــى أنك مما اشتكي سالـــــــــــــــــــــــم

تضحك في الحب ، و أبكي أنــا الله فيما بيننا حاكـــــــــــــــــــــــــــم

أقول لما طار عني الكـــــــــــرى قول معني قلبه هائـــــــــــــــــــــــــم

يا نائما أيقظني حبــــــــــــــــــــه هب لي رقاد أيها النائــــــــــــــــــــم

هكذا كان ابن زيدون ساعر الأندلس و بلبلها الغريد ، و هكذا كان شاعر العبقرية التي تعطي النفس من خلال الطبيعة التي تصف ، و تعصر القلب في كؤوس الحب التي ترتشف ، و تصعد الزفرات و الآمال أنغام سحر و روعة ، (( تعتصر اللغة و تستخرج منها كل ممكناتها الموسيقية لتشدو ألحانها المشجية التي ملكت على العرب ألبانهم في عصورهم القديمة و الحديثة ، حتي جعلت كبار شعرائهم من همهم أن يعارضوا بعض قصيده ، كي يظفروا ببعض أنغامه ، ... و ليس روم الأندلس و حدهم هم الذين أخذوا عنه لوعة فؤاده و عمق عشقه ، بل أخذهما أيضا في جنوب فرنسا جماعة التروبادور الذين ثأتروا فيما بعد أصحاب الموشحات و الأزجال من ألأندلسيين ، فعمله أو بعبارة أدق غزله كان واسع التأثير بما فيه من عمق الهوى و عذاب الحب و حرقة العشق )) .

المعتمد بن عباد

المعتمد بن عباد
تاريخه :
كان بنو عباد من ملوك الطوائف في الأندلس ، تولوا حكم إشبيلية من سنة 1031 إلى سنة 1091 م و قد لأسس دولتهم أبو القاسم محمد بن عباد السوري الأصل ، و كان آخرهم المعتمد بن عباد أمير اشبيلية ( 1068 ـــ 1091 ) .
و لد المعتمد بن عباد سنة 1040 م و شب في بلاط أبيه على رخاء في العيش و حب للمغامرة و في سنة 1058
و جهه أبوه المعتضد على راس أحد جيوشه لإفتتاح مالقة ، فسار إليها في نشوة الشراب و اللهو و لم يجد إلا صدا
و هزيمة ، و في سنة 1064 جعله أبي بكر ابن عمار صداقة لا تخلو من ريبة ، و انصرف معه إلى السكر و العربدة ، مما أثار حفيظة أبيه و مما حمله على إبعاد ابن عمار .
و في سنة 1068 اعتلى عرش أبيه و استقدم ابن عمار و وله على شلب ، ثم إنه تزوج من جارية استطاعت أن تجيز شطر بيت ارتجله ،
و كان قد سأل صاحبه الشاعر ابن عمار أن يجيزه فلم يستطع ، فأجازته هي على البديهة و هي تغسل في الهر ، و تمنت يوما أن تعجن الطين برجليها فنثر لها الكافور و العنبر على الحصباء و صنع لها منها طينا تطأه رجلاها .
و كان ابن عباد شاعرا عبقريا ينظم الشعر ، و قد حاول أن يجعل حياته كلها قصيدة من قصائد الشعر المترف ، و أن يجعل بلاطه موئل الشعراء ، و قد انظم إليه شعراء الأندلس و افريقية و صقيلية و لا سيما عندما غزا النورمان بلادهم
و استولوا على بعضها .
و كان المعتمد رجل حرب افتتح المدائن ، و دك الحصون ، و قد امتلك قرطبة و امتد سلطانه إلى مرسية ، عندما عليه أمر الأدفنش (( الفونس السادس )) ملك قشتالة استنجد بيوسف المرابطي ابن تاشفين صاحب مراكش ، و خاض معه معركة الزلاقة سنة 1086 ، و خرج منها ظافرا ، و لكن يوسف لم يلبت أن خانه و عمل سرا على الإستئثار بالملك في بلاد الأندلس ، فأثار الفتن على المعتمد و فتح قرطبة و اشبيلية ، فانهزم الملك الشاعر ثم أسر و حمل مع ذويه إلى أغمات قرب مراكش عند سفح جبال الأطلس ، فأقام في أسره يندب الحظ و يصف أيامه الماضية و الحاضرة في شعر كان عصارة نفسه و لسان وجدانه ، حتى وافاه الأجل في دور اتخذت له من طين تحت أغصان النخيل ، و ذلك سنة 488 هــ / 1095 م .
ان عباد شاعر الوجدان :
كان ابن عباد شاعر الترف و الرخاء قبل أسره ، و شاعر الألم و الذكرى بعده ، كان كأبي فراس من سليلة حل الشعر في صدر كل واحد من أفرادها ، و كان كل واحد منهم سيد السيف و القلم ، و نظم الشعر كأبي فراس منذ حداثة سنه ،
و لكنه اختلف عنه في تطلب اللهو إلى حد الإسراف ، و في حياة المجون التي تسربت إلى شعره فملأته خمرا و موسيقى و طربا .
و أسر ابن عباد كأبي فراس ، و اقتيد أولا إلى طنجة ثم إلى أغمات حيث ضاقت به الحال و اضطرت بناته إلى كسب العيش يعمل أيديهن ، و حيث توالت عليه النكبات و المحن ، و حيث أخيرا عاش أربع سنوات في مذلة الفقر ، و فقر المذلة ، يستوحي آلامه شعرا كان حكاية حاله و صورة لآلامه و أماله .
و كانت آلام ابن عباد شديدة الوطأة على نفسه ، و قد امزلته من برجه العالي إلى حقيقة الحياة ، و مرغت قلبه بتراب الوجود ، فبكى بعد غيبوبة النشوة ، و تململ على فراش الحزن بعد لين المسرة ، و جر قيده ذليلا بعد أن كان على رأسه تاج الملك ، و أبصر بناته يمشين حافيات على قسوة الأرض بعد أن مشين على المسك و الكافور ، و يغزلن للناس للحصول على لقمة العيش ، و فقد زوجه و ولديه و تشبتت حوله شمل الأصحاب بعد أن كان نقطة الدائرة و محط الآمال و الأبصار .
و راح في حزنه يتأمل و يعتبر و يخرج من تأمله حكيما يفقه زوال الدنيا و سراب الوجود ، و راح يقارن بين الماضي
و الحاضر ، و إذا في نفسه صراع ينسيه الحقائق التي جنى ثمارها من التأمل و الإعتبار ، و إذا الصراع يتحول إلى سخط على الدهر الذي يحارب الصالحين ، و إلى كآبة شديدة تحيي فيه الذكريات ، و تزجه في عالم الفرحة السالفة في يأس يهون معه الموت الزؤام .
و راح في حزنه ينظر إلى الذاهبين و الباقين من ذويه ، و يتقلب بين دمعة الرثاء و جرح البقاء ، في لوعة بثت شعره حرارة اللهات المحترق و سكبت على قوافيه عالما من الأشجان ، و هو أبدأ صادق الإنفعال ، صادق التصور ،
و شعره أبدا تعبير حي عن واقع حالته .
و هكذا فوجدانية أبن عباد هي وجدانية النفس السهلة اللينة التي تنصب على واقعها و واقع أحوالها الحياتية ، و تعالج آمالها يالتنهد الحرى ، و الزفرة العميقة ، و الإرنان الطويل ، فليس هنالك تعقد و لا تعقيد ، و ليس هنالك نظرات إنسانية بعيدة المرامي ، و إنما هنالك إخلاص في العاطفة ، و صدق في التجربة ، و حكاية حال حافلة بالإنكسار النفساني . و الذهول الآسف المتألم .
هكذا يبدو لنا ابن عباد اشد تركزا شعريا و عاطفيا من أبي فراس ، و أن في ذكرياته الفخرية ما يجعلها أقرب إلى النفس و أفعل في القلب من ذكريات أبي فراس .

السبت، 30 أغسطس 2008

مراحل الشعر الأندلسي

في عهد الولاة :

نشأ الشعر الأندلسي في عهد الولاة نشأة غامضة ، و كان صدى ضعيفا للشعر المشرقي تتردد فيه معانيه و أساليبه ، و من شعراء تلك الفترة : بكر الكناني ، و عبااس بن ناصح ، و عبيد اللع بن قرلمان ، و عبيديس بن محمود ، و محمد بن يحيي القلفاط ، و حسانة التميمية ، و يحيى بن حكم الغزال .
و مما زاد التأثير البغدادي في هذا العهد أنغام الجواري المشرقيات الائي حملن إلى الأندلس من مثل (( قمر )) و (( العجفاء )) ، و أوثار على بن نافع الملقب ((زرياب )) أو (( الطائر الأسود )) ، و قد فر من بغداد تخلصا من غيرة أستاذه (( إسحاق الموصلي )) ، و حمل إلى الأندلس طائفة كبرى من أنغام الشرق أصبحت في أصل الموسيقى الإسبانية على ممر العصور .
و قد ظهرت في هذا العصر الأراجيز التاريخية كما ظهرت الموشحات على يد شاعر ضرير هو (( مقدم القبري )) الذي عاش في أوخر زمن الولاة ، و انتشر شعر (( النوريات )) انتشارا شديدا إلى جنب الزهديات و التاريخيات و ما إلى ذلك .
في عهد بني أمية
و لما كان عهد بني أمية في الأندلس ازداد الشعر انتشارا ، لما أولاه الحكام من عناية ، و لما كان هنالك من حركة علمية و أدبية هي أشبه شئ بحركة أوائل العهد العباسي في الشرق ، و قد اشتهر من الشعراء إذ ذاك (( ابن عبد ربه 339 هـ صاحب العقد الفريد )) ،
و (( ابن هاني الإلبيري 362 هـ )) و (( الزبيدي 379 هـ )) و (( ابن ابي زمنين 398 هـ )) و (( المصحفي 372 هـ )) و (( ابن ادريس الجزيري 394 هـ )) و (( ابن دراج القسطلي 422 هــ )) و (( ابن برد 394 هـ )) و اشتهر في فترة الإنتقال من العهد الأموي إلى عهد ملوك الطوائف (( ابن شهيد 382 هـ )) و (( ابن حزم 384 ــ 456 هـ )) و هما من أظهر أعلام الثقافة الأندلسية ، و قد شهدا سقوط الخلافة الأموية و بكيا قصر الخلافة في قرطبة لما عراها من خراب و دمار .
في عهد الإمارات :
و ما إن انهارت الخلافة الأموية حتى تحولت بلاد الأندلس إلى إمارات تنافس فيه الحكام في طلب العلم ، و الأخذ بأسباب الأدب ، و تقريب الشعراء ، بل تنافسوا في نظم الشعر ، و كانوا يتراسلون فيما بينهم شعرا ، و يحاولون أن يعيشوا حياة شعرية ، و قد اشتهر في ذلك العهد (( المعتمد بن عباد صاحب اشبيلية 461 هـ 484 هـ )) و (( ابن زيدون 394 هـ 463 هـ )) و (( أبو بكر الشلبي 479هـ ))
و (( ابو بكر بن اللبانة الداني 507 هـ )) و (( ابو عبد الله محمد بن الحداد 480هـ )) و (( ابو محمد عبد الجليل بن وهبون المرسي 480 هـ )) و (( ابن صارة الشنتريني 517 هـ )) و (( ابو عبد الله محمد بن شرف البرجي 461 هـ ))
في عهد المرابطين :
و في عهد المرابطين انحط الشعر انحطاطا مشؤوما لأسباب شتى منها أن ذلك العهد كان قصيرا لم يتهيأ لأصحابع من الوقت ما يهذب خشونتهم و يرقق من أذواقهم ، ثم إن الثقافة في العهد السابق لم تكن من العمق و المتانة بحيث يتهيأ لها البقاء في هذا العهد ، زد على ذلك أن المشرق كان إذ ذاك في انهيار و لم يبق له على الأندلس إلا أثر ضئيل جدا ، فراح الشعر يتضاءل و يتلاشى و ينزه نزعة الزجل و التوشيح ، و انصرف نفر من أهل الحرص يجمعون الشعر الأندلسي خشية أن يضيع ، فوضع أبو الحسن علي بن بسام 542 هـ مجموعة (( الدخيرة في محاسن أهل الجزيرة )) و وضع ابو نصر الفتح بن خاقان القلاعي 1134م كتابه (( قلائد العقيان )) .
و قد تغلب في هذا العهد ذوق العوام ، و مال الشعر إلى كل ما هو سوقي ، و اتسم بسمة البذاءة ، و هكذا كان العهد (( عهد الهجاء اللاذع و السخر العنيف ، عهد المتحررين و المجان من الشعراء ، و عهد كبار الزجالين كذلك )) .
و قد اشتهر من الشعراء ابو إسحاق بن خفاجة 450 هـ و ابن أخته يحيى بن عطية بن الزقاق 529 هـ و هما من أهل جزيرة شقر ، و الأعمى التطيلي 520 هـ و ابن بقي 540 هـ و اشتهر في الشعر الزجلي ابن قرمان .
عهد الموحدين :
و كان عهد الموحدين عهد هدوء و سكينة ، كما كان عهد علم عرف ابن طفيل و ابن رشد و ابن عربي و زهر و ابن البيطار ، و اشتهر ابو عبد الله محمد بن غالب البلنسي المعروف بالرصافي 573 هـ و أبو بحر صفوان ابن ادريس الحميري صاحب (( زاد المسافر )) و ابو عبد الله محمد بن ادريس المعروف بمرج الكحل 634 هـ و اشتهر كذلك عدد من النساء اللواتي تعاطين القريض من مثل حفصة الركونية ، كما اشتهر ابراهيم بن سهل الإسرائيلي 649 هـ و أبو عبد الله بن الآبار القضاعي .
عهد بني الأحمر :
اما عهد بني الأحمر في غرناطة فكان عهد انحلال اشتهر فيه الوزير لسان الدين بن الخطيب 714 هـ و الوزير محمد بن يوسف الشريحي المعروف بابن زمرك 734 هـ و قد (( رددا أصداء الماضي المولى في نغم نادر الجمال و الروعة )) .
تلك هي المراحل التي مر بها الشعر الأندلسي ، و إننا نرى من خلال ها أن الشعراء قليلو العدد قبل القرن الحادي عشر ، و أن شعرهم تقليد للشعر العباسي في موضوعاته و أساليبه ، و قد ازداد عدد الشعراء بعد ذلك العهد و تضخم الإنتاج الشعري و ظهرت فيه الشخصية الأندلسية ، و النزعة الشعبية ، و إذا الشعر على ألسنة جميع الطبقات ، و إذا الحكام و الأمراء و الوزراء و أرباب الفقه و الأطباء و المتصوفون ، و إذا العميان و العمال و غيرهم يتعاطون القريض .

شيوع الشعر في الأندلس

شاع الشعر في الأندلس شيوعا واسعا جدا ، و انتشر في جميع الطبقات ، فزاوله الملوك و الوزراء ، و انشده القضاة و العلماء ، و قاله الأعمى و المتسول ، و الساعي المتجول ، و فاه به القائد في مقدمة الجيوش ، و الجندي في ميادين القتال ، حتى لتحسب أن الشعر في الأندلس لغة الحياة ، و ان الحياة شعر و ألحان ، و الذي يلفت النظر في الموضوع أن للرفيين في الشعر الأندلسي أعمق الأثر ، قال هنري بيريس : (( لم يكن عمل الفلاحة ليلف الحياة الريفية لفا كاملا ، و انسيابات خيال و إلهام ، و لن تخرج عن جادة الصواب إذا قلنا إن أعمق الشعر شخصية هو شعر الرجال و النساء الذين كانوا ألصق بالأرض ، و أقرب إلى الطبيعة ، فقد تسربت إلى شعرهم عذوبة المشاهد قسوتها ، و عندما انتقلوا إلى لين المدينة استطاعوا أن يعبروا عن أقوى الأفكار في أنضر الصور و أزهارها ألوانا ، فهم الذين أكسبوا الشعر الأندلسي تلك الميزة الريفية التي تصلها بأصدق ما كتبه اليونان و الرومان في موضوع الريف ... )) .

و قد بلغ انتشار الشعر ذروته منذ القرن الحادي عشر ، و كان ذلك فريدا في تاريخ العرب ، أضف إلى ذلك أن الشعر في المشرق انحصر ضمن نطاق الأرسطقراطية ، و أن عمل بشار و أبو نواس على إنزاله إلى الحيز الشعبي ، أما في الأندلس فكان الشعر شعبيا بكل ما في الكلمة من معنى ، و كان تنفس الحياة بكل ما في الكلمة من معنى ، و كان لغة الجميع ، (( فهو للعامل و الفلاح أنشودة الجمام بعد التعب ، و هو للكاتب و الوزير و الأمير انفلاتة من عبودية الهموم و المهام ، و هو للشعراء الرسميين وسيلة للتكسب و كسب لقمة العيش ، كما هو في الوقت نفسه مجال لانطلاق الفن ، و هو للجميع موضوع فخر و مباهات ، و مجال حر لا يضيق بوزير و لا أمير ، و الأندلسيون يميلون إليه لأنه شعر ، و لأنه كلام موزون ينطلق من الشفاه ألحانا و أنغاما ، لانه (( كلام مجنح )) و موسيقى قبل أن يكون خطابا .

الشعر الأندلسي

نظرة عامة :

انتقال الشعر إلى الأندلس :

لقد تدفق العرب على الأندلس تدفقا شديدا ، و لن تمضي فترة من الزمن يسيرة حتى نرى البلاد تموج بالعرب موجا ، و قد حملوا معهم إلى الأندلس طبيعتهم الشعرية ، كما حملوا نزعاتهم العرقية ، و كان الشعر يحل حيثما حلوا ، و كان ينمو و يترعرع في انفجار طبيعي أشبه بانطلاق النور من قلب الشمس ، و في هذا الجو الجديد اتسع المجال لمواطن شعري جديد ، و إذا هنالك عالمان : عالم شرقي و عالم غربي ، عالم شرقي بشخصيته التي عرفناها و تتبعناها في أطوارها عبر العصور ، و عالم غربي بشخصيته تتكون شيئا فشيئا ، و يبدأ تكوينها يوم كان بشار و أبو نواس في الشرق يثوران على التقاليد الموروثة ، و يريدان شعرا شعبيا ينساق مع البيئة ، و ينضج بروح العصر ، عالمان عربيان : اصل و فرع ، و للأصل تاريخه و أمجاده ، و للفرع طموحه و آماله ، و قد نظر الغرب إلى الشرق نظر الفرع إلى الأصل ، و فيه عزم على مواصلة الحركة الشعرية في أوج ما وصلت إليه ، و فيه طمع في التقليد الحياتي و الأدبي ، و قد نفسه شئ من نقص ، و كان دائم التطلع إلى دمشق و بغداد و المدينة ، حتى انقلب و في نفسه شئ من نقص ، و حتى وهم أنه دون الشرق منزلة ، ثم قام فيها حكم يناوئ حكم العباسيين في بغداد ، ثم إن الغرب الذين هاجروا إليها امتزجوا بسكانها امتزاجا أفقدهم شيئا من عروبتهم ، و ساقهم إلى الرطانة في اللغة .
و ما إن كان القرن الحادي عشر حتى قويت الشخصية الأندليسية ، و حتى أخد الأندلسيون يعرضون شيئا فشيئا عن المشارقة ، و يجدون عندهم العالم و الأديب و الشاعر ، و يجدون عندهم من ينافسون به الشرق ، و قد أخذوا في جمع الشعر الأندلسي فوضع أبو الوليد الحميري كتاب (( البديع في وصف الربيع )) و أعلن في مقدمته أن الأندلس أصبحت في غنى عن أدب المشرق لما أتى به أدباؤها و شعراؤها من روائع القول ، و في أوائل القرن الثاني عشر وضع ابن بسام كتاب (( الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة )) و أراد فيه أن يكابر أهل المشرق و يصد أبناء الأندلس عت التطلع إليهم ، و يقدم الشواهد على أن العبقرية الأندلسية قد تفوقت في أمور كثيرة على العبقرية الشرقية ، و في الوقت نفسه وضع الفتح بن خالقان (( قلائد العيقان )) للغاية نفسها و في سبيل الغرض نفسه ، ظهرت كذلك دواوين الشعراء فكانت البرهان القاطع على عروبة الشعر الأندلسي و علو منزلته .

مالك بن المرحل

مالك بن المرحل ( 604 -- 699 هــ / 1207 ــ 1299 )

تاريخه :

ولد أبو الحكم مالك بن المرحل السبتي في بلدة سبتة و نشأ ساقط الذكر ، خفي المنزلة ، إلا أن أدبه و شعره جعلا منه شاعر المغرب الأول ، تعاطي صناعة التوثيق في بلدته و تقرب كثيرا من يعقوب المنصور المريني و قد خصه دون غيره بالمديح ، و بالرغم من شيخوخته و تقدمه في السن بقي نافذ الذهن ، شديد الإدراك ، سريع البديهة ، توفي بفاس سنة 699 هـ / 1299 م .
أدبه لأبي الحكم ديوان شعر لم يبق منه إلا بعض القصائد في أغراض متنوعة ، و هو يحاول في شعره أن يقلد أبا تمتم و غيره من شعراء المشرق ، و لكنه لا يستطيع أن ينطلق في ميادين الحماسة انطلاقهم ، و لا تشعر أن الثأتر بلغ منه مبلغا شديدا ، فشعره لين و سهل ، مطبوع بطابع التدين و الإنتصار للدين ، و هو على كل حال لا يخلو من رفق و جمال .
(( قيل عن ابن المرحل إنه (( أطبع شعراء المغرب أسلوبا ، و أرشقهم لطفا ، و أبلغهم معنى )) و هذا يعني أنه من أحق الشعراء بالخلود ، و أنه من العقريات التي يستطيع المغربي العربي أن ينافس بها أهل المشرق ، و إننا سنتتبه في بعض أغراض شعره لنقف على بعض مزايا هذا الشاعر العظيم الذي جمع في صدره عالما من العلم ، و في شعره عالما من الروعة .
شاعر المدح :
ذكرنا سابقا سابقا أن ابن المرحل خص يعقوب المنصور المريني بالمديح دون سواه ، و يعقوب بن عبد الحق هذا هو الذي استطاع أن يقظي على الموحدين و يرفع لواء بني مرين ، و كان فاضلا نقيا ، يحب العلم و العلماء ، و يستبشير رجال الفكر في شتى أموره ، و كان إلى ذلك رجل دولة من الدرجة الأولى ، و رجل حرب شديد البأس ، مرهوب الجانب ، و قد حاول أن يسترجع ملك أفريقية من سيطرة بني عبد الواد و بني حفص فلم يفلح ، و لئن كانت له عليهم انتصارات في مواقع متعددة فإنه لم يتمكن من بلوغ الأهداف ، و تحقيق الوحدة المغربية التي حققها الموحدون .
و عندما فتح مدينة مراكش مدحه شاعرنا بقصيدة ميمية رائعة تجلب فيها شاعريته بشتى مزاياها ، و الطريقة التي انتهجها في مدحه لهذا العاهل الكبير الذي ملأ نفسه إعجابا ، و قلبه فخارا ، فكان له بمثابة سيف الدولة لأبي الطيب المتنبي أو بالحري بمتابة المعتصم لأبي تمام صاحب البائية الشهيرة التي نظمها عند فتح عمورية ، هو الفتح يستحث قريحة الشاعرين فينطلقان انطلاق غبطة و عزة و يريان في الممدوح سيفا من سيوف الله في رقاب الظالمين ، و رحمة من رحمات الله في نفوس العابدين .
تمثلت لشاعرنا وقفة أبي تمام يومذاك ، و تصورت في نفسه معانيه ، فراح يعالج الموضوع مستوحيا لا مقلدا ، و مقتبسا لا مرددا ، و هكذا كان البحر البسيط مركب الشاعرين ، و كان الفتح عندهما تفتحا في الوجود و في أبواب الجنة ، و كان الأمير مختارا من الله لصرة الدين و عقاب الظالمين .
و لكن ابن المرحل لم يستطع مجاراة أبي تمام في ملحمته الحربية ، و في قوقعته الشعرية ، و لم يسلك مسلكه في الزخرفة المدوية التي غمرت أبياته و قوافيه ، و لا في التعقيد الفكري و اللفظي الذي انطوت عليه قصيدته ، بل نزع منزع اللين و السهولة ، و استعاض عن وصف الحرب بالإطناب في ذكر صفات الأمير الكبير ، و إذا هو خير الحاكمين ، و ملاك الله الأمين بل هو درع الدين و حمى المسلمين ، فسبحان من خصه بالفضل كله ، و سبحان من وهبه نور العقل و نور اليقين .
و هكذا فالقسم الأول من القصيدة نشيد الفتح ، و هو أقرب إلى وصف الطبيعة و النسيب منه إلى الحماسة و شعر الفتوح ، و القسم الثاني لنعمة الله التي رافقت الأب المنصور إلى الولد المنصور ، و القسم الثالث للفاتح رجل السيف و القلم ، و في هذه الأقسام سكب الشاعر روحه المتدينة ، و إيمانه العميق ، على كل بيت و كل عبارة ، فكانت القصيدة مطبوعة بطابع التدين و الإنتصار للدين .
أضف إلى ذلك أن ابن المرحل مزج المدح بوصف الطبيعة على طريقة الأندلسيين ، مما أضفي على كثير من الأبيات شيئا من الرقة و اللين هما لغير هذه المواقف .
شاعر الغزل :
لإبن المرحل غزل طريف ، و إننا سنتوقف عند قصيدتين نستجلي من خلالهما ميزات هذا الشاعر في فن النسيب و التشبيب ،
القصيدة الأولى : من وحي ابن الفارض ، و قد تأثر به شاعرنا ، و راح ينهج نهجه في التقلب على نار الهوى ، و فقدان الصبر ، و التململ على فراش السهر و الدموع ، و راح ــ و هو الخبير بالقضاء و المرافعات ، يتحكم إلى قاضي الحب ، و يقيم الشهود لإثبات الحقيقة التي يعانيها :
شكيت لقاضي الحب قلت أحبتـــــــــــي جفوني و قالوا أنت في الحب مــــــــــــــدع
و عندي شهود بالصبابة و الأســــــــى يزكون دعواي لإذا جئت أدعــــــــــــــــــي
سهادي و شوقي ، و اكتئابي و لوعتـي و وججدي و سقمي و اصفراري و أدمعــــي
ليس في هذا الحب معاناة حقيقية ، و ليس فيه تعبير عن تجربة ، و إنما فيه فن و طرافة ، و روعة أداء ، و هو ، و إن كان قليل الإثارة ، ضعيف التأثير في عالم النفس و الحسن ، فهو يعجب بما فيه من زخرفة بيانية و بديعية ، و بما يمتاز به من رقة و سلاسة و سهولة ، و يعجب خصوصا بالطرافة التي يتحلى بها .
لابن المرحل قصيدة أخرى حافلة بالطرافة على وزن مجروء الدوبيت .
افتحها بفلسفة الحب و الحبيب ، و بين أن القلب عبد الجمال ، و أن للحب الحقيقي دلائل تدل عليه ، ثم انتقل إلى نفسه و إذا هو هدف لسهام الجمال تنطلق من حبيبه إلى مقاتله ، و إذا هذا الحبيب تمثال حي من تماثيل الفن و النهاء ، و لكنه مع ذلك تمثال يثير .
الإعجاب :
ياحسن طلوعه علينــــــــــــــــا و السكر بمعطفه مائـــــــــــــــل
قد نم به شذا الغوالـــــــــــــــــي إذ هب ، و نمت الغلائــــــــــــل
و السحر رسول مقلتيــــــــــــــه ما أقرب عهده ببابـــــــــــــــــل
شاعر الفصص و الفكاهة :
و هذه ناحية أخرى طريفة تتجلى لنا في شعر ابن المرحل ، من أمثال هذه القصص الفكاهي و المأسوي في آن واحد قصته مع امرأة شوهاء ارغم على زواجها بالحيلة و الدهاء ، و لما اختلى بها وجدها قرعاء حولاء ، فطساء ، صماء ، بكماء ، عرجاء ، فما كان له إلا أن يهرب تحت جنح الظلام ، و ينحو بنفسه من غوائل الأيام .
يفتتح الشاعر قصيدته بالتكبير و بإعلان تدينه ثم يعلن أنه كان ضحية لمكر النساء :
إن النساء خدعنني و مكرن بي و ملأن من ذكر النساء مسامعي
حتى وقعت ، و ما وقعت لجانب لكن على رأسي لأمر واقـــــــع
ثم يري لنا كيف احتلن عليه و وصفن له العروس بأوصاف الفتنة و السحر ، و كيف أقدم بعدم تردد ، فكتب الكتاب و شرطت الشروط ... و كان قرارة نفسه يخشى ما آلت إليه حاله :
ثم انفصلت و قد علمت بأنني اوثقت في عنقي لها بجوامع
ولم تلبث النساء أن عدن إليه و أمرنه أن يأخذ في البناء ، و أن يصنع للعروس عرسا و أن لا يحوج إلى قاضي و محاكمة ... عند ذلك شعر الشاعر بالمسؤولية الباهظة ، و راى في الأمر ما يريب ، فندم ، و هيهات أن ينفع الندم ، و فكر في الطلاق و لكنه طمه في الحسن الذي أطنبت النساء في وصفه ، فأقام العرس ، و طمع في أن تجلى العروس فيصبر وجهها ، و لكن النساء كن بالمرصاد :
فدكرن لي أن ليس عادة أهلها جلو العرس ، و تلك خدعة خادع
ثم نقله ليلا إلى دارها ، و إذا هو بيت صغير مظلم ، فسمع (( حسا منكرا )) اشبه بنقيق الضفادع ، فحاول أن يهرب ، لكن النساء حلن دون ذلك ، ، فخضع أخيرا لما لا بد منه ، و اختلى بعروسه ، و أرغمها على نزع الخمار عن رأسها ، و إذا به أمام مشهد رهيب :
فوجدتها قرعاء تحسب أنهــــــا مقروعة في رأسها بمقـــــــارع
حولاء تنظر قرنها في ساقهـــــا غتخالها مبهوتة في الشـــــــارع
فطساتحجو أن روثة أنفهــــــــا قطعت ، فلا شلت يمين القاطـــع
صماء ...
فما كان منه عند هذا المشهد إلا أن يندفع في الزقاق هاربا (( كأنه لص أحس بطالب أو تابع ))
حتى إذا لاح الصباح و فتحوا باب المدينة كنت أول كاسع
إنها و الحق يقال قصة طريفة فيها تحليل دقيق ، و فيها سرد ممتع ، و فيها سلاسة و عذرية و رواء .
شاعر الحكمة و الزهد :
مالك ابن المرحل رجل امتاز بحصافة العقل ، و سعة الثقافة و حسن التدين ، و له في الحياة و الناس و الزمان آراء مبثوثة هنا و هناك في شعره ، و هي أبدا تخص على التحلي بالفضيلة و التقوى ، و على السير على سبيل الإستقامة .
و الفتى الذي يرجى توبته جدير بأن يبكي على نفسه :
جدير بان يبكي على نفسه أســــــــــى فتى كلما ترجى له توبة ترجـــــــــا
جبان عن التقوى ، جرئ على الهوى قريب من المهوى ، بعيد من الملجأ
و كم في هذا الكلام من ترصن و من صدق عقيدة ، و كم فيه من جمال فني في التعبير فالجناس في البيت الأول رائع ، و الطباق في البيت حافل بموسيقى الأسى و الأسف .
و ابن المرحل شديد التأثر بجماعة التصوف ، و إننا لنراه يسير في خطاهم و يستعير بعض تعبيراتهم و ألفاظهم ليعبر عما في نفسه من لواعج ، و عما في قلبه من صبو إلى عالم الله تعالى ، فهو يبكي على ذنوبه و ينتحب ، و يدعو صاحبه إلى البكاء و النحيب معه عله يغسل بالدموع أدران آثامه :
بحقك لا تبرح أطارحك لوعتــي رجاء بعيد ، لا مخاف قريـــب
بدار إلى هذي الدموع فربمـــــا غسلت ذنوبا جمة بذنـــــــوب
و هو إلى جانب ندمه عما أتى من سيئات ، يدعو الناس إلى التعقل ، و نبذ الدنيا الغرارة ، و عدم تأجيل التوبة إلى زمن الشيخوخة :
بعيد من التوفيق من بات ساهرا رجاء بعيد ، لا مخاف قريــب
بطئ لعمري من سرى الليل كله و أصبح حول الحي بعد لغوب
بخيل لعمري من دعاه حبيبه : هلم إلينا ــ و هو غير مجيـــب
هذا هو مالك بن المرحل الذي قيل عنه (( إنه أعظم شعراء المغرب شهرة على الإطلاق )) إنه شاعر الدين و الدنيا الذي استطاع أن يجمع في شعره جزالة العباسيين و رقة الأندلسيين ، و تلوع المتصوفين ، و أن يكون صاحب الشخصية المغربية الفذة التي صبغت عبقريته بصبغة المغرب )) .